لما أرسل الله رسوله لم يرسله ليتكبر على الناس في المسكن والملبس
والمركب، بل كان متواضعاً لا يأخذ إلا ما يكفيه، بل لقد كان من دعائه- صلى
الله عليه وسلم - أن يجعل رزقه ورزق آله قوتاً، وقد اكتفى بما تيسر له من
المسكن، فكان لا يُوجد بداخله إلا القليل من الفراش والمتاع، وكان يصلي
على الحصير في النهار، وإذا أتى الليل أخذها ونام عليه؛ لأنه لم يكن له
غيرها، وكان لا يشبع من خبز الشعير، ولو أراد أن يجعل الله له الجبال
ذهباً لفعل، ولكن أراد الله أن يجعل منه قدوة في جميع أحواله، وأن يكون في
شأنه وحاله سلوة للفقراء والمساكين، وأن يكونوا درساً عملياً في الصبر،
وفي بيان أن التضييق على الإنسان في الدنيا ليس معناه أن الله لا يحبه،
كما أنه ليس معنى الغنى أن الله يحب الغني، ومن أجل ذلك أعطاه، ولوكان
الأمر كذلك، لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أغنى الناس بالأحوال
والأثاث والفراش وغيره، ولكن الأمر كما قال تعالى: {فَأَمَّا
الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ
عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} سورة الفجر (15-16)، والآن إليك صورة واضحة عن مسكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفراشه ، وعيشه، ومطعمه، ومشربه.
أولاً: فراشه:
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان وسادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي يتكئ عليها من أدَمٍ حشوها ليف1.
وعن
عبد الله بن مسعود - صلى الله عليه وسلم - قال: دخلت على رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وهو نائم على حصير، قد أثَّر بجنبه فبكيت، فقال: (ما يُبكيك يا عبد الله؟).
قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كسرى وقيصر قد يطؤون على الخز
والديباج والحرير، وأنت نائم على هذا الحصير قد أثَّر في جنبك!. فقال: (لا تبكِ يا عبد الله، فإن لهم الدنيا و لنا الآخرة)2.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: إنما كان فراش رسول الله الذي ينام عليه أدَمٍ حشوه ليف3.
ثانياً : لحافه - عليه الصلاة والسلام -:
عن
هشام عن أبيه قال: قال كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة قالت: فاجتمع
صواحبي إلى أم سلمة فقلن يا أم سلمة والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم
عائشة وإنا نريد الخير كما تريده عائشة فمري رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث ما كان أو حيث ما دار قالت فذكرت
ذلك أم سلمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : فأعرض عني فلما عاد إلى
ذكرت له ذاك فأعرض عني فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال يا أم سلمة لا
تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل على الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيره4.
وعن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران رداء وعمامة5.
ثالثاً: كرسيه وسريره - صلى الله عليه وسلم -:
عن أبي رفاعة - صلى الله عليه وسلم - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس على كرسي خلت قوائمه حديد6.
وعن
عائشة - صلى الله عليه وسلم - قالت: أعدلتمونا بالكلب والحمار لقد، رأيتني
مضطجعة على السرير فيجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيتوسط السرير
فيصلي فأكره أن أسنحه فأنسل من قبل رجلي السرير حتى أنسل من لحاف7.
رابعاً: قطيفته - صلى الله عليه وسلم -:
عن ابن عباس- رضي الله عنهما - قال: لما دُفن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع بينه وبين اللحد قطيفة بيضاء بعلبكيَّة8. وعن أنس بن مالك قال: حج النبي - صلى الله عليه وسلم - على رحل رث وقطيفة تساوي أربعةدراهم أو لا تساوي ثم قال: " اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة)9. وعن زينب عن أمها، قالت: بينما أنا مضطجعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخميلة...10
خامساً: حصيره - صلى الله عليه وسلم -:
عن أنس بن مالك يقول: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نُضِحَ له طرف حصير فصلى ركعتين11. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت : كان لنا حصير نبسطها بالنهار ونحتجرُها علينا بالليل12. وعن المغيرة بن شعبة: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على الحصير والفروة المدبوغة13.
سادساً: عيشه - صلى الله عليه وسلم -:
عن مالك بن دينار قال: ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خبزٍ قطّ، ولا لحمٍ إلا على ضففٍ14. وعن سماك بن حرب قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: ألستم في طعام وشراب ما شئتم؟ لقد رأيت نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وما يجد من الدقل، ما يملأ به بطنه15. والدقل: رديء التمر.
وذكر عمر - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب الناس من الدنيا. فقال : لقد
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل اليوم يلتوي، ما يجد دقلاً
يملأ به بطنه16.
وعن
عائشة - رضي الله عنها- قالت : إن كنا، لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم
الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - نار..17
وعن مالك بن دينار قال: ما شبع آل محمد - - صلى الله عليه وسلم -- منذ قدم المدينة، من طعام بر ثلاث ليال تباعاً، حتى قُبض18.
وعن محمد بن سيرين قال: كنا عند أبي هريرة، وعليه ثوبان ممشقان من كتان،
فتمخط، فقال : بخ ٍبخٍ، أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر
فيما بين منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حجرة عائشة مغشياً
عليَّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي، ويرى أني مجنون، وما بي من جنون،
ما بي إلا الجوع19.
وعن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - قال: خرج رسول الله في ساعة لا يخرج
فيها ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر فقال: ما جاء بك يا أبا بكر؟ قال
: خرجت ألقى رسول الله أنظر في وجهه، وأُسلم عليه . فلم يلبث أن جاء عمر،
فقال : (ماجاء بك يا عمر؟). قال : الجوع يا رسول الله! قال : (وأنا قد وجدت بعض ذلك)
. فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري، وكان رجلاً كثير
النخل والشاء، ولم يكن له خدم، فلم يجدوه، فقالوا لامرأته : أين صاحبك؟
فقالت : انطلق يستعذب لنا الماء . فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة
يزعبها فوضعها، ثم جاء يلتزم النبي ويُفِّديه بأبيه وأمه، ثم انطلق بهم
إلى حديقته، فبسط لهم بساطاً، ثم انطلق إلى نخله، فجاء بقنو فوضعه، فقال
النبي : (أفلا تنقيت لنا من رطبه؟). فقال : يا رسول الله إني أردت أن تختاروا، أو تخيروا من رطبه وبسره، فأكلوا وشربوا من ذلك الماء، فقال : (هذا والذينفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة؛ ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد). فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاماً، فقال النبي : (لا تذبحن لنا ذات در). فذبح لهم عناقاً أو جدياً، فأتاهم بها، فأكلوا، فقال: (هل لك خادم؟). قال : لا. قال : (فإذا أتاناسبي فأتنا). فأُتي برأسين ليس معهما ثالث. فأتاه أبو الهيثم، فقال النبي : (اخترمنهما). فقال: يا رسول الله! اختر لي. فقال النبي: (إن المستشار مؤتمن، خُذ هذا،فإني رأيته يصلي، واستوص به معروفاً).
فانطلق أبو الهيثم إلى امرأته، فأخبرها بقول رسول، فقالت امرأته : ما أنت
ببالغ حق ما قال فيه النبي إلا بأن تعتقه، قال : فهو عتيق، فقال : (إن
الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف
وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، ومن يوق بطانة السوء فقد وقي)20.
وعن سعد بن أبي وقاص قال: إني لأول رجل أهراق دماً في سبيل الله – صلى الله عليه وسلم -، وإني لأول رجل رمى بسهم في سبيل الله،
لقد رأيتني أغزو في العصابة من أصحاب محمد ما نأكل إلا ورق الشجر والحبلة
حتى تقرحت أشداقنا، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة والبعير، وأصبحت بنو أسد
يعزرونني في الدين، لقد خبت وخسرت إذاً وضل عملي21.
وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لقد أُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يُؤذى أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين ليلة ويوم، وما ليو لبلالطعاميأكلهذو كبد إلاشيء يواريه إبط بلال)22.
وعن أنس بن مالك - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجتمع عنده غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف23.
سابعاً: أكله - صلى الله عليه وسلم -.
عن أنس بن مالك - صلى الله عليه وسلم - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أكل طعاماً لعق أصابعه ثلاث24.
وعن أنس بن مالك قال: أتي رسول الله بتمر، فرأيته يأكل وهو مُقعٍ25.
ثامناً: خبزه - صلى الله عليه وسلم -:
عن
عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم
- من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -26 .
وعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: تُوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شبعنا من الأسودين: الماء والتمر27.
وعن عائشة أيضاً قالت : لما فُتحت خيبر قلنا : الآن نشبع من التمر28.
وعن أبي أمامة الباهلي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما كان يفضل عن أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبز الشعير29.
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله؛ لا يجدون عشاء، و كان أكثر خبزهم الشعير30.
وعن أبي حازم عن سعد أنه قيل له : هل أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- النقي؟ فقال سهل : ما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النقي، من
حين ابتعثه الله حتى قبضه الله. قال : فقلت : هل كانت لكم في عهد رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - مناخل؟ قال : ما رأى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - منخلاً، من حين ابتعثه الله حتى قبضه. قال : قلت : كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال : كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار، وما بقي ثريناه فأكلناه31.
عاشراً: ما جاء في إدامه - صلى الله عليه وسلم -:
عن عائشة-رضي الله عنها- قالت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (نِعْمَ الأدم، أوالإدام،الخل). وفي رواية: بهذا الإسناد، وقال: (نعم الأدم). ولم يشك32.
وعن
زهدم الجرمي قال: كنا عند أبي موسى الأشعري فأُتي بلحم دجاج، فتنحى رجل من
القوم، فقال: مالك؟ فقال: إني رأيتها تأكل شيئاً فحلفت أن لا آكلها، قال:
ادن فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل لحم الدجاج33.
وعن أبي أسيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كلوا الزيت، وادهنوا به؛ فإنه من شجرة مباركة)34.
وعن عمر بن الخطاب - صلى الله عليه وسلم - قال: قال: رسول الله -- صلى الله عليه وسلم - -: " كلوا الزيت وادهنوا به؛ فإنه من شجرة مباركة)35.
وعن
أنس بن مالك قال: إن خياطاً دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام
صنعه قال أنس بن مالك: فذهبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك
الطعام، فقرّب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبزاً ومرقاً فيه
دباء وقديد، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتتبع الدباء من حوالي
القصعة قال : فلم أزل أحب الدباء من يومئذٍ36.
وعن
أنس أيضاً قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الدباء، فأتي
بطعام، أو دعي له، فجعلت أتتبعه، فأضعه بين يديه، لما أعلم أنه يحبه37.
وعن
أنس بن مالك - صلى الله عليه وسلم - الله عنه قال: رأيت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يتتبع في الصحفة يعني الدباء فلا أزال أحبه38.
وعن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب الحلواء والعسل39.
وعن
عطاء بن يسار أن أم سلمة أخبرته: أنها قربت إلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - جنباً مشوياً، فأكل منه ثم قام إلى الصلاة وما توض40.
وعن ابن مسعود - صلى الله عليه وسلم - قال: كان النبي يعجبه الذراع. قال :وسم في الذراع، وكان يرى أن اليهود سموه41. وعن أم هاني - رضي الله عنها - قالت: دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أعندك شيء؟). فقلت: لا، إلا كسرة يابسة وخل، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (قربيه فما أقفر بيت من أدم فيه خل)42.
وعن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولم على صفية بسويق وتمر43.
وعن جابر قال: خرج رسول الله وأنا معه، فدخل على امرأة من الأنصار، فذبحت
له شاة، فأكل منها، وأتته بقناع من رطب فأكل منه، ثم توضأ للظهر وصلَّى،
ثم انصرف، فأتته بعلالة من علالة الشاة، فأكل، ثم صلى العصر، ولم يتوض44.
الحادي عشر: قدحه - صلى الله عليه وسلم -:
عن أنس - صلى الله عليه وسلم - قال: لقد سَقَيْتُ رسولَ الله بقدحي هذا الشراب كله: العسل والنبيذ، والماء واللبن45.
الثاني عشر: فاكهته - صلى الله عليه وسلم -:
عن عبد الله بن جعفر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأكل القِثَّاء بالرُّطَب46.
وعنه أيضاً قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل الرطب بالقثاء47.
وعن عائشة قالت: كان - صلى الله عليه وسلم - يأكل البطيخ بالرطب فيقول: (نكسر حر هذا ببرد هذا، و برد هذابحر هذا)48.
وفي الختام بعد أن ذكرنا ما تيسر لنا في هذا الموضوع ، فإنه حريُّ بكل
مسلم بعد أن يقرأ هذا الفصل أن تطمئن نفسه إن كان فقيراً، وأن ينفق على
الفقراء والمساكين إن كان غنياً؛ لأنه قرأ ما كان عليه النبي - صلى الله
عليه وسلم - الذي أيده الله من فوق سبع سماوات، وحباه بالرسالة ومع ذلك
كانت هذه حالته في الدنيا وكان هذا مسكنه، فما للقلوب لا تعقل؟! وما
للأبصار لا تبصر؟! وما للنفوس لا تتوب؟!. هذا والله من وراء القصد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.